الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. «ارجع لقديمك».. تفتح كتاب التاريخ على صفحة «الخريف»  تسالى «سبتمبرية» بين «الرطب» و«البرجى»

الطريق الثالث.. «ارجع لقديمك».. تفتح كتاب التاريخ على صفحة «الخريف» تسالى «سبتمبرية» بين «الرطب» و«البرجى»

عندما شكوت لأبى ارتفاع سعر البلح «البرجى» إلى 50 جنيها للكيلو الواحد، وهو يدرك محبتى الكبيرة له، ابتسم هامساً وناصحاً: «ارجع لقديمك.. البلح الأمهات بـ15 وأحلى»، تأملت حكمته وشردت مع ذكرياتى مستدعياً لحظات الطفولة (السبتمبرية) التى كانت السعادة فيها تتحقق بـ(شوية) بلح أمهات (أو رطب) و(كيس) لب أسمر (مش سوبر)، يجتمع حولهما أفراد العائلة فى (بلكونة) منزلنا الشبراوى العامر، نضحك ونتسامر ونستمتع بنسمات نهاية الصيف مع أكواب الشاى (المنعنع)، نحلق بها مع أحلامنا فى السماء الصافية ونستقر بين النجوم.



 

سبتمبر شهرى المفضل، رغم حالة الشجن التى تخيم على مشاعرنا فيه بفعل الانتقال بين الفصول، إلا أنه يمتلك قدرة فريدة على تنقية روحى وتصفية ذهنى وتنشيط خلايا التفكير والإبداع بداخلى، فتتكاثر فرص الحياة مع بشائر الخريف، الذى يراه البعض نهاية عام، وأراه بشرى لكل البدايات الجديدة والسعيدة. 

ولأن (القديم) كان نصيحة الوالد (متعه الله بالصحة والعافية)، والعودة إليه هربا من قسوة الحاضر مسألة تتوافق مع عشقى للتاريخ وحنينى الدائم للماضى، أستمتع باستعادة تفاصيله وأتوقف أمامها بالبحث والتأمل.. والفحص والتمحيص، فدروس التاريخ هى زاد الحاضر وجسر المستقبل، المهم ألا ندخل التاريخ من باب الندم والنواح، بل نبحر فيه بغرض التدبر والتسرية، ولا يوجد ما يمنع أن ندخله من باب التسلية. 

سبتمبرية.. ميلاد وجاهين 

كتب شاعرنا الراحل صلاح جاهين فى مقدمة ديوانه الأخير، قائلاً: «اسم أنغام سبتمبرية، اسم كبقية الأسماء.. لكننى اخترته لسبب أو لأخر. ربما لأن عواطفى تعودت أن تجيش فى سبتمبر من كل عام. منذ أن كان الفيضان يأتى فى هذا الشهر محملاً بعطر كان يملؤنى بنشوة عجيبة ورغبة خفية فى الارتواء والاحتواء.. أو ربما لأن عبد الناصر مات كمداً فى سبتمبر».

وبين ديوان «أنغام سبتمبرية» للشاعر صلاح جاهين وكتاب «ذكريات سبتمبرية» للدكتور ميلاد حنا، مصادفة جمعتهما فى مساحة مشتركة داخل ذاكرتى، فقد قراءتهما فى يوم واحد منذ زمن بعيد، أخذتنى القصيدة (الديوان) وأبياتها، والكتاب بفصوله وزنازينه وسجونه، إلى نهاية عصرى عبد الناصر والسادات، ورغم التناقض فى مشاعرهما بين المحبة المفرطة عند جاهين لناصر والغضب القاسى عند ميلاد حنا للسادات، إلا أنه بين سطور الديوان لاحت خبايا الستينيات، ووسط مشاعر الغضب عند السجين اليسارى القبطى، تشكلت صورة سجانه فى خريفه الأخير. وكانت القراءة فى سياق البحث عن إجابة السؤال الحائر الذى يطاردنا دائماً، حول ما جرى فى غيابنا، قبل أن نولد أحيانا، وقبل أن نفهم فى أغلب الأحوال.

خطاب الاعتقالات

قد يمنحنا الفضاء الافتراضى كنوزاً مجانية، ربما تستحق ما ننفقه فيه من عمرنا، وكنزى المتزامن مع ذكراه الـ 42، كان فيديو كاملا لخطاب الرئيس السادات فى مجلس الشعب يوم 5 سبتمبر 1981، قذفت به خوارزميات (الفيس بوك) أمامى فسهرت عليه منتقلا بكامل وجدانى إلى ذاك الزمان البعيد، مستعيدا ما أتذكره من تفاصيل عاصرتها وعايشتها طفلا يتشكل وعيه، فهذا الخطاب أعقبته «اعتقالات سبتمبر» الشهيرة، وأظنه أهم خطاب رئاسى فى تاريخ مصر الحديث، فقد كان سبباً مباشراً فى نهاية عصر السادات بما مثلته هذه النهاية من ضياع مشروعه الوطنى الهام، الذى كان سيوفر على مصر سنوات الفرص الضائعة التى مرت بها بعد وفاته.

كنت ألهو فى منزل قديم فى حى أم المصريين بالجيزة، أجرى بين غرفه الكثيرة، عندما سمعت تعليقات غاضبة من كبار العائلة على ما يبثه التليفزيون، مررت سريعا أمامهم ولمحت الرئيس يصرخ وهو يجفف عرقه بمنديله الأبيض ويتحدث بقسوة عن رجل اسمه (شنودة)، وشيخ مرمى زى الكلب لم ألتقط اسمه، فهمت بعدها بسنوات أنه كان يتحدث عن البابا شنودة والشيخ المحلاوى.

كان البيت لزوج خالتى الكبرى، ولا أدرى سر تواجدنا فيه أنا وأمى التى كانت على وشك الولادة، وبالفعل خرج شقيقى محمود إلى الدنيا بعدها بثلاثة أسابيع فى اليوم الأخير من سبتمبر، واحتفلنا بـ«السبوع» فى السادس من أكتوبر 1981، يوم مقتل الزعيم.. السادات، فى مفارقة قدرية يتمها أننا ترعرعنا فى منزل الأسرة بـ«شارع السلام»، وهو الاسم الذى اخترناه بعدها بسنوات أنا وشقيقى لفيلمنا القصير الذى حصد جائزة لجنة التحكيم فى إحدى المهرجانات المحلية عام 2021. 

ونعود إلى خطاب السادات الأخير، الذى يستحق أن يدرس فى الجامعات كمثال على الخطاب الرئاسى الكارثى، أو كنموذج للخطيئة السياسية الإستراتيجية. فالرئيس كانت له أخطاء مؤثرة خلال فترة حكمه، لكنها توارت خلف انجازه العظيم، أما خطأه (السبتمبرى) فهو لا يغتفر لأنه كلف مصر الكثير.

ويبرز هذا الخطاب ملامح «مشكلة الحكم» فى مصر، مع أن السادات كان مدركا لطبائع الأمور، وكان ينوى الخروج من منصبه للتقاعد كما كشفت عن هذه النية «وثائق بريطانية» أفرج عنها بعد وفاته بسنوات، لكن القدر كان سباقاً وتم اغتياله ليوضع خطابه الأخير وما تلاه من قرارات فى صفحة واحدة من كتاب التاريخ مع «نكسة» مصر فى عهد عبد الناصر.

مروان والإخوان

فى 14 سبتمبر 2018، عرض الفيلم الأميركى «الملاك» أو العميل بابل، عن كتاب «الملاك: الجاسوس المصرى الذى أنقذ إسرائيل» من تأليف أورى بار يوسف، والفيلم كان محاولة فاشلة لخلق صورة ذهنية وترسيخها، من صناعة الآلة الدعائية الإسرائيلية التى تحاول من جديد فى سبتمبر هذا العام الترويج لنفس القصة المفبركة، بالإفراج عما وصفته بالوثائق السرية عن حرب أكتوبر 73 بمناسبة مرور 50 سنة عليها.

ويتلقف الإخوان وذيولهم ودراويشهم ومن على شاكلتهم من المتربصين بالوطن، هذه القصص إسرائيلية التى تحاول إعادة إنتاج «أكتوبر 73»، بتشويه البطولة والنصر بعار الخيانة والجاسوسية، ومنها القصة المصنوعة عن العميل بابل التى تروج لخيانة الدكتور أشرف مروان صهر الرئيس جمال عبد الناصر، وسكرتير الرئيس السادات، والذى لعب أدوارا متعددة خدم بها الدولة المصرية قبل الحرب وبعدها.

إن الوثائق والشهادات المصرية والإسرائيلية والعالمية المتاحة طوال نصف قرن مضت على الحرب، تحسم مسألة النصر لمصر، وتؤكد على وطنية أشرف مروان الذى برع فى خداع رئيس الموساد إيلى زعيرا، ومكن الرئيس السادات من توظيفه فى خطة الخداع الإستراتيجى التى كانت مفتاح النصر، كما أن الاستدلال العقلى المنطقى على صدق هذا الانتصار يكمن فى استعادة مصر بالحرب والسلام لكامل أراضيها فى سيناء، ألا يكفى هذا أيضاً للرد على الأكاذيب حول مروان والتى اخترعتها الدولة الإسرائيلية كى تغازل بها شعبها، فى محاولة لخلق انطباع مراوغ عن حرب «يوم الغفران»، ربما يخفف من وطأة الغضب والمذلة التى تتجدد فى أكتوبر من كل عام، عندما يتذكر المواطن الإسرائيلى ما جرى لجيش بلاده فى «اليوم السادس» منه.

والإلحاح الإسرائيلى المتكرر على مسألة خيانة مروان وتعاونه مع الموساد يهدف إلى تلويث سمعة دولة يوليو فى مصر، وإلصاق نقيصة الخيانة ببطولات «أكتوبر 73»، الملحمة التى حطمت أسطورة الجيش الذى لا يقهر، وخلقت أسطورة جديدة عن مصر، جيش وشعب لا يعرفوا المستحيل.

وفى الختام

لم أجد عن سبتمبر أعذب من كلمات عمنا الراحل صلاح جاهين فى قصيدته «أمر الله»: «وعاد لسبتمبر الفيضان دمع هتون.. ينصب م القلب ويهيم فى النسيم محزون.. يميل نخيل الرطب على بعضه بالهمسات.. حتى الرسول.. مات.. وأمر الله لا بد يكون!»، وهذه القصيدة تعبر عن مشاعره عقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970.